الأربعاء, 2024-05-01, 7:13 AM

الغريب المريب
 
 بعد صلاة فجر يوم جمعة وفي منتصف فصل (الخريف ) الصيف
 حيث الجو غائم , والرذاذ منهمر وإمكانية الرؤية ضعيفة
 توجهت ثلاث فتيات (مرباطية) الى عين (غبرين) لجلب الماء العذب
 عادة ما يكون الماء متوفرا في الصباح لأنـه قد تجمع خلال الليل
 تبكر الفتيات لكي تتفادى لهيب الشمس الحارق في رحلة العودة
فالمكان بعيد بعض الشيء .وكذلك لتجنب الإزدحام خلال النهار
 كان الماء قليلا جدا على غير ما كن يتوقعن
الامر الذي حدى بـهن إلى الانتظار طويلا لحين يتوفر الماء
كن يغترفن الغرفـة ، ثم ينتظرن تجمع الماء في قعر العين
 اقترب موعد شروق الشمس و لم يملأن اوعيتهن بعد
والماء لا يرتفع عن ذاك المنسوب الضئيل
 تضايقت الفتيات وتسلل اليأس و الملل والضجر الى نفوسهن
 ولكن ليس امامهن خيار سوى الانتظار او العودة بقرب خالية الوفاض
فقررن المكوث ومواصلة غرف الماء على ذلك النسق
 وأخذن يسلين انفسهن وبالأحاديث التي ليس لها نـهايـة
 وفجأة لاح لهن شبح مريب كان قادما من ناحية المقبرة
 فتوقفن عن اللعب ، وجلسن يرصدنه على خوف وحذر
 كان الشبح يقترب منهن قليلا قليلا يظهر حينا ويختفي حينا
فالجو ضبابي والوقت مبكر وسناء الشمس ما لاح بعد
كانت الفتيات تتبادل نظرات التعجب والحيرة و الارتياب
 و يشجع بعضهن البعض وهن يرتلن(المعوذات والإخلاص) ه
 وبعد أن أخذ منهن الخوف كل مأخذ وتسللت إلى جوانحهن الشكوك والأوهام
 اضحى الراكب على مسافة خطوات قليلة منهن
فكادت أرواحهن تتلف و أنفسهن تزهق
 لما رأين شكله المفزع وهيئته المرعبة وتحركه المريب
رد عليهن السلام من على البعد ولم يزد على ذلك
 فشعرن بارتياح عميق ، لأنـه على الاقل انسي وليس شيء آخر
 نزل الرجل من على ظهر الناقـة 
 وسألهن بحياء ظاهر ان يسمحن له بسقايـة ناقته
 ثم الاغتسال استعدادا لصلاة الجمعة
فوافقن دون تردد واخبرنه بان الماء شحيح
 وان عليه الانتظار بعض الوقت حتى يتجمع الماء في العين
 توجه الرجل نحو الكهف القريب فربط راحلته و استلقى على الارض
 آخذا قسطا من الراحة
عادت البنات الى العين و غرفن الماء الذي تجمع
ثم جلسن في انتظار تجمع الماء من جديد
 
 
لكنهن لاحظن تململ الرجل الغريب وتقلبه و إضطرابه وهو مضطجع 
 و سمعنه يتفوه بكلمات غير مفهومة راعهن ذلك التصرف المريب 
 و أستهجن منه ذلك السلوك المثير للشكوك
و حاولن العودة الى ما كن عليه
لكن الفضول سطى على أفئدتهن
 خاصة وان الرجل كان قد بدأ البكاء بحرقة ومرارة
 وبعد هنيهة أخذ يقهقه بصوت عال ويضحك في هسترية وجنون
وهو مضطجع كالمنوم مغتاطيسيا لم يعرفن ماذا دهاه ؟
 أ مجنون هو أم عاقل أ به مس أم إنه قد فقد أعز الناس على قلبه
 إختلجت مشاعر الشفقة , ونيران الفضول في أفئدتهن
 كان فضولهن يزداد إلحاحا
الى الحد الذي حدى بهن إلى التوجه نحو الرجل و إيقاظه بلباقة و أدب رفيعين
 نهض الرجل فزعا هلعا
 و اخذ يصيح و يتوسل : ارجوك أبعدها عني ... أبعدها عني
 فزاد تعجب البنات و زادت حيرتهن
وبينما كن يتبادلن نظرات الاستغراب فتح الرجل عينيه
 ولما رآهن بالقرب منـه أرتبك ارتباكا شديدا وخجل خجلا مريعا
 فطأطأ رأسه أسا وحزنا ثم ما لبث أن عاوده الشرود والسرحان
 لكنه استفاق من سرحانـه سريعا و شعر بحرج شنيع
 فاستعاذ بالله من الشطان الرجيم
فشرعت الفتيات بملاطفتـه والتخفيف من حدة روعه
وأبدين لـه تعاطفا ورحمة في محاولة لإخراجه مما هو فيه
 بعد أن أيقن من أنه إنسان موتور
 أصابته سهام القدر بمصاب أفقده صوابه
و أورثه أرقا وذهولا و فزعا ورعبا
 فعادت إليه بعض ثقته بنفسه عندما لاحظ مسحة الحزن التي تعلو وجوههن
 فخاطبهن متوسلا بصوت مخنوق : ـ
ارجوكن يا اخواتي ... انا اريد سماع خطبة الجمعة
 فلو سمحتن لي بالاغتسال والتوجه الى المسجد . فسأكون ممنون
  قالت احداهن : لكن الماء قليل 
 و نحن هنا منذ الصباح الباكر ولم نملا قربنا بعد...
 قاطعتها احدى زميلاتها قائلة : ـ انا سأعطيه الماء الذي جمعته 
 شكرها الرجل واخذ قربة الماء و إستتر خلف صخره
 و هناك نزع القميص الذي كان يرتديه 
 فبانت على ظهره وعنقه آثار جروح غائرة مثل اثار الكي 
 شهقت احدى البنات لما رأت ذلك وكادت تقع مغميا عليها
بينما وقفت الاخريات مشلولات وقد عقدت الدهشة السنتهن
 فاغرات أفواههن
 و أخيرا قررن أن يسألنه لكن الحياء كان يمنعهن والخجل يحبسهن
 فلما الح عليهن فضولهن وغلب عليهن حب الإستطلاع
اقتربن من الرجل على إستحياء , تقدمن خطوة وترجعن خطوة
 ولكنهن توقفن فجأة عندما لاحظن سرحان الرجل وتوقفه عن الإغتسال
حيث كان قد إفترش الأرض واضعا رأسه بين رجليه
 وهو يجهش بالبكاء
 
 
تنحنحت إحداهن لتشعره بوجودهن لكن الرجل لم يبالي
 وكأنه لم يسمعها 
 فأعادت التنحنح بنبرة أقوى
 حينها مسح الرجل دموعه ولملم شعث هيئته وغالب دموعه المنهمرة
و أراد الإنصراف ,لكن الفتيات أستوقفنه
وقالت أكبرهن سنا : ـ(ها غي آل هونه) أرجوك يا أخي تمهل قليلا
 توقف الرجل مرتبكا لا يحير جواب ولا يهتدى إلى خطاب
 فتشجعت الفتيات على التحدث إليه لما رأينـه من حسن أخلاقه و أدبه الرفيع
 فبادرته البنت الثانية بقولها : لا يزال الوقت مبكرا جدا على خطبة الجمعة
أما الثالثة فقد جلبت فنجان شاهي وقدمته للرجل الذي يكاد وجهه يلتصق بالأرض من الخجل
 لبس الرجل قميصه وجلس على صخرة
 ثم إستقبل البنات بوجهه الذي تعلوه مسحة حزن عميق
وتنهد تنهيدة تفلق الصخر
 وقبل أن ينبس ببنت شفة بادرته البنت الصغرى بقولها : ـ أرجوك يا أخي
إشرب الشاهي  ولا تكسر خاطري حينها تناول الرجل فنجان الشاهي
وأخذ يرتشف منه بيد مرتجفة
 في هذه الأثناء كانت البنت الكبرى تخاطبه قائلة : ـ أعلم يا أخي
 أن ما أصابك إنما كان اختبارا من الله لك
 فلقد قال تعالى : ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا..) تبارك ـ ٢
وقالت أخرى : سامحنا يا أخي على هذا الفضول
 ولكنك قد ملأت قلوبنا حزنا وأسى
 فمن حقنا عليك أن تفسر لنا كل ما لاحظنا من تصرفات بدرت منك
قالت الثالثة : اعتبرنا أخوات لك
فنحن إنما نود مساعدتك والتخفيف من حملك
 انبسطت أسارير الرجل عندما سمع العبارات الأخيرة
 و إرتسمت على محياه بسمة رضا و أمل فأعتدل في جلسته
 و إستجمع بعض قواه وشرع في الحديث بعد أن أستوثق من حسن نواياهن
فقال : ـ كنت ثالث إخوتي السبعة
 
 

 

 
 
وقد ترك لنا أبي ثروة ضخمة من الإبل و رؤوس الماعز 
كنا نسكن في الريف الشرقي من مدينة (مرباط) ه
ولقد تزوجت من إمرأة فائقة الحسن والجمال و أنجبت منها ولدين وثلاثة بنات
 كنا نعيش في هناء وحبور , لا يكدر صفو عيشنا مكدر
 ثم إن إخوتي أرسلوني إلى دولة البحرين بغرض التفاوض مع أحد أصدقاء أبي
 على ملكية أرض مشتركان فيها
 عدت من السفر بعد عدة أشهر بعد أن أنهيت مهمتي بنجاح تام
 إذ منعني صديق أبي من المغادرة قبل استيفاء حق الضيافة
عدت وليتني لم أعد
 ثم سكت واغرورقت عيناه بالدموع فبكت البنات لبكائه وناحت لنواحه
 ثم إن الرجل إستجمع قواه فأسترجع وثاب إلى رشده
حينها بادرته صغرى البنات بقولها : هاه ... ماذا حدث عندما عدت إلى ديارك ؟
 قالت البنت الكبرى : أتركي المسكين وشأنه , فيبدو أنه لا يريد التحدث إلينا
 قال الرجل : لا لا ... منذ سنوات طويلة لم يفتح لي احد قلبه مثلما فعلتن
وقد اعتبرتكن أخواتا لي كما طلبتن , وأنا أثق بكن كل الثقة
 ولكنني لا أتمالك نفسي عندما أتذكر الاحداث المفجعة التي مرت علي
 نعم كنت أسابق الريح في رحلة العودة إلى الديار
 لكنني تفاجأت بقلة الرعاة في النواحي القريبة من مساكننا
 لم ارى سوى عدد قليل من الناس مع حيوانات قليلة على غير العادة
 كنت حائرا مذهولا ولكنني لم أتوقف لأسأل أحدا
 فالشوق والحنين يملأن قلبي وفرحتي بإنجاز المهمة قد غلبت على عقلي
 وكان كل ما يهمني أن أفرح إخوتي بنجاح الصفقة
 لم أتوقف إلا أمام ما كان مدخل بيتي ...
 ثم سكت قالت الفتاة : ماذا تقصد ؟ ألم تجد البيت ؟
 تنهد الرجل تنهيدة كئيبة.. ثم قال : لا ...لم أجد بيوتا ولا ناسا و لا حيواناتا حتى
 
 

وجدت أطلالا وبقايا بيوت وحظائر
 قالت البنت : لماذا ؟ إلى أين رحل إخوتك وأهلك ؟
 قال الرجل هذا ما كنت أسأل نفسي عنه
 ولم يخطر على بالي سوى أنهم تركوا الديار مكرهين
 فإن المنازل ورثناه أب عن جد والماء والمراعي متوفرة بفضل الله
 ولا يمكن لإخوتي ان يرحلوا هكذا
 إلا لسبب لا يملكون دفعه
 قالت البنت : إذا ماذا فعلت ؟ وأين أمضيت ليلتك ؟
وهل عثرت على أهلك فيما بعد ؟
ولماذا هجروا مساكنهم ؟
 قال الرجل : تمهلي قليلا أصلحك الله
 
تــــــــــــــتبع