الأربعاء, 2024-05-01, 11:27 AM
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

صور من حياة التابعين 

عطاء بن ابي رباح

ما رايت احدا يريد بالعلم وجه الله عزوجل غير هولاء
الثلاثة : عطاء ... وطاووس ... ومجاهد
(سلمة بن كهيل)
ها نحن اولاء في العشرة الاخيرة من شهر 
(ذي الحجة )
سنة سبع وتسعين للهجرة 
 وهذا البيت العتيق يموج بالوافدين على الله من كل فج
مشاة وركبانا شيوخ وشبان رجالا ونساء
وفيهم الابيض والأسود , العربي والعجمي
 والسيد والمسود 
 لقد قدموا جميعا على ملك الناس
 مخبتين ملبين 
 راجين مؤملين
 وهذا سليمان بن عبد الملك خليفة المسلمين 
 وأعظم ملوك الارض يطوف بالبيت العتيق
 حاسر الراس حافي القدمين
ليس عليه إلا ازار ورداء
 شانه في ذلك كشأن بقية رعاياه من اخوته في الله
 وكان من خلفه ولداه 
 وهما غلامان كطلعة البدر بهاء ورواء
 وكأكمام الورد نضارة وطيبا 
 وما ان انتهى من طوافه حتى مال
على رجل من خاصته وقال : اين صاحبكم ؟
  فقال : انه هناك قائم يصلي وأشار
 الى الناحية الغربية من المسجد الحرام 
 فاتجه الخليفة ومن وراءه ولداه الى حيث اشير اليه
و هاهم رجال الحاشية
 انيتبعوا الخليفة ليفسحوا له الطريق
 ويدفعوا عنه اذى الزحام 
 فثناهم عن ذلك وقال : هذا مقام
يستوي فيه الملوك والسوقة
ولا يفضل احدا احدا الا بالقبول والتقوى
 ورب اشعث اغبر قدم على الله
 فتقبله بما لم يتقبل به الملوك
ثم مضى نحو الرجل 
 فوجده ما يزال داخلا في صلاته
غارقا في ركوعه وسجوده
 والناس جلوس وراءه وعن يمينه وعن شماله
فجلس حيث انتهى به المجلس 
 واجلس معه ولديه وطفق الفتيان القرشيان
 يتأملان ذلك الرجل الذي قصده امير المؤمنين
وجلس مع عامة الناس ينتظر فراغه من صلاته
 فإذا هو شيخ حبشي اسود البشرة 
 مفلفل الشعر افطس الانف 
 اذا جلس بدا كالغراب الاسود
 ولما انتهى الرجل من صلاته 
 مال بشقه على الجهة التي فيها الخليفة
فحياه سليمان بن عبد الملك فرد التحية بمثلها 
 وهنا اقبل عليه الخليفة , جعل يسأله
 عن مناسك الحج منسكا منسكا
وهو يفيض بالإجابة عن كل مسالة ويفصل القول فيها
تفصيلا لا يدع سبيلا لمستزيد ويسند
كل قول يقوله الى رسول الله  
 ولما انتهى الخليفة من مسألته جزاه خيرا 
 وقال لولديه قوما  فقاما ومضى الثلاثة نحو المسعى
وفيما هم في طريقهم الى السعي بين الصفا والمروة 
 سمع الفتيانالمنادين ينادون : يا معشر المسلمين
 لا يفتي الناس في المقام إلا عطاء ابن ابي رباح
فان لم يوجد فعبد الله بن ابي نجيح 
 فالتفتت احد الغلامين الى ابيه
 وقال : كيف يأمر عامل امير المؤمنين الناس
بالا يستفتوا احدا غير عطاء ابن ابي رباح
و صاحبه ثم جئنا نحن نستفتى هذا الرجل
 الذي لم يأبه للخليفة , ولم يوفه حقه من التعظيم؟ 
 فقال سليمان لولده : هذا الذي رايته يا بني
 ورأيت ذلنا بين يديه هو عطاء ابن ابي رباح
. صاحب الفتيا في المسجد الحرام ووارث
عبدا لله بن عباس في هذا المنصب الكبير.
 ثم اردف يقول :يا بني
 تعلموا العلم فبالعلم يشرف الوضيع
وينبه الخامل ويعلوا الارقاء على مراتب الملوك
 لم يكن سليمان بن عبد الملك مبالغا
 فيما قاله لابنه في شان العلم . فقد كان
 عطاء ابن ابي رباح في صغره عبدا
 مملوكا لامراءة من اهل مكة
 غير ان الله عز وجل اكرم الغلام
 الحبشي بان وضع قدميه منذ نعومة
اظفاره في طريق العلم , فقسم وقته اقساما
ثلاثة : قسم جعله لسيدته , يخدمها فيه احسن
 ما تكون الخدمة
ويؤدي لها حقوقها عليه اكمل ما تؤدى الحقوق 
 و قسم جعله لربه , يفرغ فيه لعبادته
اصفى ما تكون العبادة وأخلصها لله عز وجل
و قسم جعله لطلب العلم 
حيث اقبل على من بقي حيا من صحابة رسول الله
   وطفق ينهل من مناهلهم الثرة الصافية
فاخذ عن ابي هريرة , وعبد الله بن عمر
 وعبد الله بن عباس , و عبد الله بن الزبير 
 وغيرهم من الصحابة الكرام
رضوان الله عليهم 
 حتى امتلأ صدره علما وفقها ورواية
 عن رسول الله  ولما رأت السيدة المكية
 ان غلامها قد باع نفسه لله
ووقف حياته على طلب العلم تخلت عن حقها فيه 
 وأعتقت رقبته تقربا لله عز و جل 
 لعل الله ينفع به الاسلام والمسلمين  
و منذ ذلك اليوم اتخذ عطاء بن ابي رباح
   البيت الحرام مقاما له , فجعله داره التي يأوي اليها 
 ومدرسته التي يتعلم فيها 
 ومصلاه الذي يتقرب فيه الى الله بالتقوى والطاعة 
 حتى قال المؤرخون : كان المسجد فراش
            عطاء ابن ابي رباح نحو من عشرين عاما
 وقد بلغ التابعي الجليل عطاء ابن ابي رباح
 منزلة في العلم فاقت كل تقدير وسماء الى
 مرتبة لم ينلها إلا قليل من معاصريه
 فقد روي ان عبد الله بت عمر وعن ابيه 
 ام مكة معتمرا فاقبل الناس عليه
 يسألونه ويستفتونه فقال : اني لأعجب لكم
 يا اهل مكة اتجمعون لي المسائل لتسألوني
عناه وفيكم عطاء ابن ابي رباح ؟
وقد وصل عطاء ابن ابي رباح الى
 ما وصل اليه من درجة في الدين والعلم
 بخصلتين اثنتين 
 اولاهما : انه احكم سلطانه على نفسه
 فلم يدع لها سبيلا لترتع فيما لا ينفع
وثانيتهما : انه احكم سلطانه على وقته 
 فلم يهدره في فضول الكلام والعمل حدث
 محمد بن سوقة جماعة من زواره
 قال : إلا اسمعكم حديثا لعله ينفعكم كما نفعني ؟
 قالو : بلى . قال : نصحني عطاء ابن ابي رباح
 ذات يوم , فقال : يا بن اخي ان الذين من قبلنا
 كانوا يكرهون فضول الكلام . قلت : فما فضول
 الكلام عندهم ؟ فقال : كانوا
 يعدون كل كلام فضولا ما عدا كتاب الله عز وجل
 ان يقرءا ويفهم وحديث رسول الله 
ان يروى و يدرى او امر بمعروف ونهيا عن منكر
 او علما يتقرب به الى الله تعالى او ان تتكلم
بحاجتك ومعيشتك التي لابد لك منها 
 ثم حدق الى وجهي وقال : اتنكرون
  {وان عليكم لحافظين , كراما كاتبين }
وان مع كل منكم ملكين
{عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قوا إلا لديه رقيب عتيد }
   ثم قال : اما يستحي احدنا لو نشرت صحيفته التي املاها صدر نهاره
 فوجد اكثر ما فيها ليس من امر دينه ولا امر دنياه
ولقد نفع الله عز وجل بعلم عطاء ابن ابي رباح طوائف كثيرة
 من الناس : منهم اهل العلم المتخصصون 
 ومنهم ارباب الصناعات المحترفون
 ومنهم غير ذلك حدث
 الامام ابو حنيفة النعمانعن نفسه قال : اخطات في خمسة ابواب
 من المناسك بمكة فعلمنيها حجام
وذلك اني اردت ان احلق من الاحرام , فأتيت حلاقا 
 وقلت : بكم تحلق لي راسي ؟
فقال : هداك الله النسك لا يشارط فيه 
 اجلس وأعطي ما يتيسر لك فخجلت وجلست
غير اني جلست منحرفا عن القبلة
فاوما الي بان استقبل القبلة , ففعلت 
 وازددت خجلا على خجل ثم اعطيته راسي من الجانب الايسر ليحلقه
 فقال : ادر شقك الايمن , فأدرته 
 وجعل يحلق راسي وانأ ساكت انظر اليه وأعجب منه 
 فقال لي : مالي اراك ساكتا ؟ كبر فجعلت اكبر حتى قمت لأذهب
 فقال اين تريد ؟ فقلت : اريد ان امضي الى رحلي 
 فقال : صل ركعتين , ثم امض الى حيث تشاء 
 فصليت ركعتين 
 فقلت في نفسي : ما ينبغي
 ان يقع مثل هذا من حجا م إلا اذا كان ذا علم 
 فقلت له : من اين لك ما امرتني به منالمناسك ؟
فقال : لله انت لقد رأيت عطاء ابن ابي رباح يفعله 
 فأخذت عنه فووجهت اليه الناس
ولقد اقبلت الدنيا على عطاء ابن ابي رباح
 فاعرض عنها اشد الاعراض  وأباها اعظم الاباء
وعاش عمره كله يلبس قميصا لا يزيد ثمنه على خمسة دراهم 
 ولقد دعاه الخلفاء الى مصاحبتهم فلم يجب دعوتهم
لخشيته على دينه من دنياهم
ولكنه مع ذلك كان يفد عليهم , اذا وجد في ذلك فائدة للمسلمين 
 او خيرا للإسلام 
 من ذلك ما حدث به عثمان بن عطاء الخراساني
 قال : انطلقت مع ابي نريد هشام بن عبد الملك 
 فلما غدونا قريبا من دمشق 
 اذا نحن بشيخ على حمار اسود عليه قميص صفيق 
 وجبة بالية وقلنسوة لاصقة برأسه , وركابه من خشب 
 فضحكت منه وقلت لأبي : من هذا ؟ فقال : اسكت
هذا سيد فقها الحجاز عطاء ابن ابي رباح
 فلما قرب منا نزل ابي عن بغلته ونزل هو عن حماره 
 فاعتنقا وتسالا , ثم عادا فركبا 
 وانطلقا حتى وقفا على باب قصر هشام بن عبد الملك 
 فما ان استقر يهما الجلوس حتى اذن لهما 
 فلما خرج ابي قلت له : حدثني بما كان منكما 
 فقال : لما علم هشام بن عبد الملك ان عطاء ابن ابي رباح بالباب 
 بادر فأذن له و والله ما دخلت إلا بسببه 
 فلما رآه هشام قال : مرحبا مرحبا ههنا ههنا
 ولا زال يقول له هاهنا ها هنا حتى اجلسه معه على السرير
 ومس بركبته ركبته
 وكان في المجلس اشراف الناس , وكانوا يتحدثون فسكتوا
 ثم اقبل عليه هشام فقال : ما حاجتك يا ابا محمد ؟
 فقال : يا امير المؤمنين , اهل الحرمين اهل الله وجيران رسوله
 تقسم عليهم ارزاقهم وأعطياتهم
فقال : نعم يا غلام اكتب لأهل مكة والمدينة بعطاياهم وأرزاقهم لسنة
  ثم قال : هل من حاجة غيرها يا ابا محمد ؟
 فقال نعم يا امير امؤمنين 
 اهل الحجاز وأهل نجد اصل العرب وقادوة الاسلام
 ترد فيهم فضول صدقاتهم
 فقال نعم , ياغلام اكتب بان ترد فيهم فضول صدقاتهم
 هل من حاجة غيرها يا ابا محمد ؟
 قال نعم يا امير امؤمنين اهل الثغور
 يقفون في وجوه عدوكم, ويقتلون من رام المسلمين بشر
   تجري عليهم ارزاقهم وتدرها عليهم
فإنهم ان هلكوا ضاعت الثغور
فقال : نعم , ياغلام اكتب بحمل ارزاقهم اليهم
هل من حاجة غيرها يا ابا محمد ؟
 قال نعم يا امير امؤمنين , اهل ذمتكم 
 لا يكلفون ما لا يطيقون 
 فان ما تجبونه منهم معونة لكم على عدوكم 
 فقال ياغلام اكتب لآهل الذمة بان لا يكلفوا مالا يطيقون 
 هل من حاجة غيرها يا ابا محمد ؟
 فقال نعم اتق الله في نفسك يا امير المؤمنين
 واعلم بأنك خلقت وحدك
 وتموت وحدك وتحشر وحدك وتحاسب
 ولا والله ما معك ممن ترى احدا
 فاكب هشام ينكث في الارض وهو يبكي 
 فقام عطاء فقمت معه , فلما صرنا عند
 الباب , اذا رجل تبعه بكيس لا ادري ما فيه
 وقال له : ان امير المؤمنين بعث لك بهذا
فقال : هيهات 
{وما اسالكم عليه من اجر ان اجري إلا على رب العالمين }
 فو الله انه دخل على الخليفة وخرج من عنده ولم يشرب قطرة ماء
   وبعد عمر فقد عطاء بن ابي رباح حتى بلغ مائة عام 
 ملاءها بالعلم والعمل وأترعها بالبر والتقوى
وزكاها با لزهادة بما في ايدي الناس 
 والرغبة بما عند الله
 فلما اتاه اليقين وجده خفيف الحمل من اثقال الدنيا
 كثير الزاد من عمل الآخرة
ومعه فوق ذلك سبعون حجة
وقف خلالها سبعين مرة
 وهو يسال الله تعالى رضاه و الجنة
ويستعيذ به من سخطه والنار